بقلم: ميشيل داميان*، باتريك كريكي*، ناتالي روسيت*
ترجمة: سيدي.م. ويدراوغو
السؤال الشائك المتعلق بـ “المسؤوليات التاريخية” والتعويضات المالية كان حاضرًا بقوة في قلب المناقشات خلال COP27 في شرم الشيخ.
جاء ذلك على خلفية انعقاد فعاليات مؤتمر الأمم المتحدة السابع والعشرين للأطراف المشاركة في اتفاقية الأمم المتحدة للمناخ في شرم الشيخ بمصر في الفترة ما بين 6 نوفمبر وحتى 18 نوفمبر2022م. والواقع أن هذا المؤتمر هو أول مؤتمر يتناول مسألة التعويضات المالية عن الأضرار التي لحقت بالبلدان النامية ويضع ذلك على رأس جدول الأعمال.
ضمت القمة مشاركين من قرابة 200 دولة، وعملت على مناقشة مطالب دول الجنوب المتنامية من دول الشمال، فضلاً عن المطالب المتكررة الصادرة عن مجموعة “الدول النامية + الصين”، والتي يبلغ تعدادها 5.6 مليار نسمة من أصل سكان العالم البالغ تعدادهم 8 مليارات نسمة. بهدف استيعاب التوترات والمناقشات حول السؤال المحوري: من المسؤول عن الانحباس الحراري العالمي؟، ومن الذي يجب عليه أن يدفع هذه التعويضات؟
أسطورة100 مليار:
في ديسمبر من عام 2009م، مع دخول محادثات كوبنهاجن حول COP15 في مرحلتها الأخيرة، اقترح الرئيس الأمريكي باراك أوباما تخصيص 100 مليار دولار سنويًّا لتمويل جهود التخفيف والتكيّف في البلدان النامية اعتبارًا من عام 2020م. لم تكن هذه مسألة “تضامن بين الشمال والجنوب” بقدر ما كانت محاولة لانتزاع صفقة: التحويلات المالية من البلدان الصناعية مقابل الالتزامات بخفض الانبعاثات من البلدان الناشئة الرئيسية. الأمر الذي قُوبِل بالرفض من جميع الدول المعنية، وعلى مقدمتها الصين، ولم تقطع أيّ دولة لنفسها أيّ وعد بهذا الصدد.
وبعد ثلاثة عشر عامًا، وفقًا لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، تجري تعبئة 100 مليار. لكن الإعلان قُوبل بقدر كبير من التشكك وعدم الثقة من قبل الدول النامية. في الواقع، يتكون هذا المبلغ بشكل أساسي من القروض -ويتعين سدادها- بدلاً من المِنَح.
ومن الواضح أن هذه الأموال تفتقر إلى الشفافية فيما يتعلق بطابعها “الجديد والإضافي” مقارنة بالمساعدات الإنمائية التقليدية، فضلاً عن أنها تفلتت تقريبًا من أيّ سيطرة لبلدان الجنوب فيما يتعلق بتخصيصها. وعليه تحوّل وعد الهواء النقي بـ 100 مليار دولار إلى إحباط عميق.
إشكالية الأضرار والتعويضات:
أثناء المفاوضات الأولى، عام 1991م، بشأن الاتفاقية الإطارية للأمم المتحدة بشأن التغيّرات المناخية، اقترح تحالف Aosis (الدول الجزرية الصغيرة) الذي يعاني من ضعف شديد في مواجهة ارتفاع مستوى سطح البحر تأسيس “آلية دولية لتعويض الخسائر والأضرار الناجمة عن التأثيرات الضارة الناجمة عن تغيُّر المناخ”. غير أن إنشاء الآلية الدولية للخسائر والأضرار كان في عام 2013م في مؤتمر وارسو COP19. ولكن اتفاقية باريس أشارت، بعد عامين، إلى أن الآلية المعنية هي أداة للتعاون وليست وسيلة للتعويض، و”لا يمكن أن تشكل أساسًا لأي مسؤولية أو تعويض”، وفي نهاية المطاف أعلن مؤتمر جلاسكو COP26 (2021) عن “ميثاق غلاسكو المناخي” عن “الحوار بشأن الخسائر والأضرار التي تتعرض لها البلدان الأكثر ضعفًا”.
في السنوات الأخيرة كانت دول الجنوب تناضل من أجل إنشاء آلية مالية لتعويض الضرر رسميًّا في مؤتمر المناخ العالمي. ولكنَّ الولايات المتحدة وأوروبا لم ترغب في ذلك ناهيك عن دعم إنشاء صندوق جديد. وفي شرم الشيخ بالنسبة لمؤتمر الأطراف السابع والعشرين الجاري سوف تقتصر هذه البلدان على اقتراح وتعزيز المؤسسات القائمة، وهو الموقف الرسمي للاتحاد الأوروبي. علمًا بأن جذور هذه التوترات المتصاعدة ترجع إلى “المسؤولية التاريخية” التي شكلت بنية المفاوضات منذ أوائل تسعينيات القرن العشرين.
مسألة المسؤولية التاريخية:
وضعَ قانون “المسؤوليات المشتركة المتباينة” الذي نصت عليه اتفاقية المناخ، عام 1992م، حجر الأساس لتقسيم العالم إلى كتلتين، بالإضافة إلى مفهوم المسؤولية التاريخية للدول الصناعية وحدها. وظلّ القانون المعني يُعْفِي بلدان الجنوب حتى الآن، بما في ذلك الصين، من أيّ التزام لخفض الانبعاثات قبل الاهتمام بموضوع تمويل التكيّف، وأخيرًا التعويض المالي عن الأضرار التي لحقت ببلدان الجنوب.
الأمر الذي كان يشكِّل عنصرًا مركزيًّا في المفاوضات المناخية طيلة ثلاثين عامًا. وكان ذلك بمثابة الدعوة إلى التضامن الدولي في مواجهة تهديدات الاحتباس الحراري -على الأقل في الخطب- نتيجة استمرارية التحديات. والواقع أن مبدأ المسؤولية التاريخية تحوّل بمرور الوقت إلى مطالب متزايدة الإلحاح في إطار “العدالة المناخية”.
لطالما كانت الولايات المتحدة من أشد المعارضين لهذا المبدأ، ولم تنضم إليه في ذلك المؤتمر قط قبل تدوينه في مؤتمر ريو في عام 1992م. وعليه لا ينبغي لنا تفسير هذا المبدأ باعتباره اعترافًا بالتزامات دولية من جانب الولايات المتحدة، ناهيك عن اعتباره بمثابة “تضاؤل المسؤولية من طرف البلدان النامية”. وهذا الموقف يظل يشكل الخط الأحمر لدبلوماسية واشنطن المناخية.
ماذا تقول الأرقام؟
لقد أكد الخبير الاقتصادي أوليفييه جودار على أن المسؤولية التاريخية للدول الصناعية والتي تقوم على أساس مطالبات التعويض عن الخسائر والأضرار ليست بتلك السهولة التي يمكن إثباتها؛ سواء من حيث الأسس القانونية والأخلاقية أو حتى الإحصائية.
ولكن الأمر واضح بالنسبة لمؤيدي المبدأ من البلدان النامية أو الأقل تقدُّمًا. ففي عام 1991م أعلن مركز الجنوب للأفكار، وهو مختبر للأفكار من بلدان الجنوب، أن الدول الصناعية كانت ستحتل المجال البيئي تاريخيًّا. ويكفي مجرد ملاحظة الانبعاثات التراكمية النسبية لإثبات هذه المسؤولية. وينبغي عندئذ تحميل الدول وشعوبها الحاليين المسؤولية عن أفعال الأجيال الماضية، ومن ثم يتعين عليها تحمُّل مسؤولية التعويض عن الأضرار الناجمة عن سلوك أسلافهم.
لكن ماذا عن الأرقام؟ لرؤية هذا بشكل أوضح، من الضروري دراسة التطور النسبي لانبعاثات غازات الاحتباس الحراري، السنوية والتراكمية، من البلدان الصناعية (المعروفة باسم مجموعة ملحق 1 في اتفاقية المناخ) والبلدان النامية والبلدان الناشئة الرئيسية بما فيها الصين (مجموعة غير المدرجة في الجدول 1).
ويبرز استعراض الانبعاثات السنوية حدوث انفصال في البلدان المدرجة في ملحق1 من عام 1980م (الصدمة الثانية من النفط) منذ تباطؤ النمو. لكن البلدان غير المدرجة في الملحق 1 سجلت ارتفاعًا في المعدلات بشكل مطرد. ونتيجة لهذا ففي حين كانت الانبعاثات في البلدان الصناعية في عام 1980م تعادل ضعف نظيراتها في مجموعة “البلدان النامية + الصين”؛ فإن هذه النسبة أصبحت في تراجع في الوقت الراهن.
أما الانبعاثات التراكمية (تلك التي تعتبر مقياس المسؤولية التاريخية) إلى نهاية القرن التاسع عشر -قبل الانتشار الكامل للثورة الصناعية في الشمال- فإن الانبعاثات في بلدان الجنوب هي المهيمنة.
ثم تغيّر المشهد جذريًّا حتى عام 1980م عندما بلغت حصة بلدان الشمال ذروتها (70 %). ومنذ ذلك الحين سجلت انحدارًا مستمرًّا بفضل النمو الاقتصادي القوي في الاقتصادات الناشئة ولا يزال معدل الانبعاث الحالي تزيد عن 50%، غير أن الوضع لن يستغرق عشر سنوات حتى تتجاوز الانبعاثات التراكمية من البلدان النامية والناشئة انبعاثات البلدان الصناعية. وسيتم تقاسم المسؤوليات التاريخية حينئذ بنسبة 50% على الأقل.
المسئولية الأخلاقية؟
لم تكن الشروط الأساسية لادعاء المسؤولية قبل عام 1990م كافية. فالأجيال السابقة لم تكن على سابق معرفة بتداعيات انبعاثات غازات الاحتباس الحراري على المناخ. وعليه لا يمكن تحميلها المسؤولية عنها، وبالأحرى تحميل الأجيال اللاحقة المسؤولية. ومن المؤكد أن الأجيال الحالية تفتقر إلى أيّ قدرة على التحرك أو وسيلة للتأثير على اختيارات الطاقة والتنمية في الأجيال السابقة.
فضلاً عن ذلك فإن تسارع النمو الاقتصادي في الأسواق الناشئة منذ تسعينيات القرن العشرين والذي كان مدعومًا بارتفاع هائل في مستويات استهلاكها من الوقود الأحفوري يعني أيضًا زيادة هائلة في الانبعاثات. ونتيجة لهذا فإن انبعاثاتهم سنويًّا على مدى العقدين الماضيين كانت أعلى من الانبعاثات التي تطلقها بلدان الملحق1.
ولكن من منظور المسؤولية الفردية الآنية فإن نصيب الفرد في الانبعاثات أعلى كثيرًا في الشمال مقارنة بنظيره في الجنوب. ويرجع هذا جزئيًّا إلى كثافة استهلاك الطاقة. ومع ذلك، باستثناء مُعتَبر، يفوق نصيب الفرد في الصين فيما يخص إطلاق الانبعاثات عن حصة نظيره في الاتحاد الأوروبي.
لكنَّ الملاحظ هو أنَّ حسم مسألة المسؤولية التاريخية قد يكون مستحيلاً، وستظل بلا تقنين وعاطفية سياسية بالامتياز. ولن يكون من مقدور أيّ إحصائيات أو نظرية للعدالة أن تبني الإجماع على الإطلاق. وستظل هذه القضية تشكل على نحو دائم “معضلة ” من شأنها أن تقوّض المفاوضات.
معضلة ذات عويصة الحل:
لا يمكن تلبية مطالب بلدان الجنوب بالكامل في شرم الشيخ. وفقًا لتقديرات دراسة استقصائية نُشرت في عام 2018م ذات العلاقة بالخسائر والأضرار؛ فإن هذه الخسائر لا تَقِلّ عن 290 إلى 580 مليار دولار سنويًّا بحلول عام 2030م. وبتزايد الاحتباس الحراري العالمي يمكن أن تتجاوز تكلفة الآثار ألف بليون دولار سنويًّا بحلول عام 2050م.
وبغض النظر عن مدى موثوقية هذه التقييمات؛ فمن غير الواقعي احتمال ارتباط الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بتحمل المسؤولية التي قد ترغمهما على دفع مئات المليارات من الدولارات سنويًّا، على الرغم أنه ليس لمصلحة أحد أن يصف مؤتمر COP27 بالفشل الذريع. وعليه يتعيّن التوصل إلى تسوية وإنْ كانت غير مرضية بالنسبة للبلدان النامية في المقام الأول، لا سيما أن الدبلوماسية هي أيضًا فنّ إخفاء الصراعات التي لن تجد حلاً أبدًا.
________________________
الهوامش:
- ميشيل داميان، الأستاذ الفخري، جامعة غرونوبل ألب(UGA) .
- باتريك كريكي، مدير الأبحاث الفخري فيCNRS ، جامعة غرينوبل ألب (UGA).
- ناتالي روسيت، دكتوراه في الاقتصاد، مديرة برامج سابقة فيBlue Plan ، وهي الآن مستشارة، وساهمت في معالجة البيانات وصياغة هذا النص.
_____
رابط المقال: